عبر برامج تنموية.. سياسة الإنتاج الحقيقي كوسيلة للتخلص من الفقر
عبر برامج تنموية.. سياسة الإنتاج الحقيقي كوسيلة للتخلص من الفقر
في القرى والمناطق المحرومة، يعيش ملايين البشر كل يوم بين فقر مُزمن وإنتاج محدود لا يكفي لتلبية حاجة اليوم وغداً، إن التشجيع على تطوير الإنتاج وتمتين الكسب الذاتي ليس خياراً رفاهياً، بل ضرورة إنسانية، تتقاطع مع حق الإنسان في الكرامة، والتعليم، والعمل، والحياة الكريمة.
في مقاطعة كوانغ نينه في فيتنام، على سبيل المثال، تحولت سياسات الحد من الفقر إلى دعوة شاركت فيها الدولة والمجتمع المحلي كله، لتشجيع الفقراء والأقليات على تحسين قدراتهم الإنتاجية وتحويل نشاطاتهم إلى أعمال تجارية مستدامة، إذ أطلقت الحركة الوطنية مبادرة "الوطن بأكمله يتعاون من أجل الفقراء – لا أحد يُترك خلفه" عام 2016، ومنذ ذلك الحين نفّذت السلطات المحلية بالشراكة مع المنظمات الشعبية برامج تدريب، تمويل قروض، ودعم الإنتاج الزراعي والتجاري وفق شبكة "VietNamNet News".
وبحسب بيانات رسمية، انخفض معدل الفقر متعدد الأبعاد في فيتنام إلى نحو 1.93٪ بنهاية 2024، مع توقعات بالوصول إلى نحو 0.9-1.1٪ بنهاية 2025.
لم يكن هدف هذه السياسات مجرد الإعانة، بل خلق فاعلية محلية، إذ تم توجيه الدعم نحو تدريب مهني، فرص عمل فورية، قروض تفضيلية، ودعم نباتات أو سلالات إنتاجية جديدة. ومن خلال تعبئة المجتمع المحلي، شهدت المناطق المحرومة في كوانغ نينه تحوّلاً في وعي الأفراد: من انتظار الدعم إلى إيجاد الفرص بأنفسهم.
الأسباب الجوهرية للفقر
الفقر في فيتنام خاصة في المناطق المحرومة ليس مجرد نقص في الدخل، بل نتيجة تداخل عوامل، منها ضعف البنية التحتية، ضعف التعليم، نقص المهارات، انعدام الوصول إلى الأسواق والتمويل، والاعتماد التقليدي على مصادر إنتاج لا تواكب تغيرات السوق أو التحديات المناخية. كذلك، تنسج أبحاث الفقر أن نضوب خصوبة التربة ونقص المياه والتدهور البيئي يؤديان إلى تثبيت الفقر الريفي.
على الجانب الاجتماعي، غالباً ما تكون هذه المجتمعات محاطة بشبكات ضعف، منها الأقليات العرقية، النساء، ذوو الإعاقة، يمنعون من فرص الإنتاج أو يواجهون معوقات قانونية أو اجتماعية تجعلهم خارج دائرة الاقتصاد النشط، وعلى الرغم من تحقيق الدول نجاحات محدودة، فإن خطر العودة إلى الفقر قائم إذا لم يتحسّن الإنتاج والقدرة على التكيف.
عندما لا يُمكن للأفراد إنتاج ما يكفي للعيش والاستقرار، تبدأ سلسلة من التداعيات: انخفاض مستوى المعيشة، ضعف التغذية، تسرب الأطفال من المدرسة، ضعف الصحة الجسدية والنفسية، وزيادة الهجرة الداخلية أو التوظيف في أنشطة استغلالية، وعندما تكون المنطقة محرومة، قد ينهار المجتمع المحلي كله، وتُفقد عناصر الثقافة، والابتكار، والتضامن المحلي.
في كوانغ نينه، على سبيل المثال، قدمت السلطات الفيتنامية منذ بداية 2025 أكثر من 87 مليار دونغ فيتنامي (العملة الفيتنامية) لصالح الأسر الفقيرة والمستحقة، وقدمت نحو 127000 هدية بمناسبة السنة القمرية الجديدة للأسر المحرومة، وأسهمت في توفير قروض استثمارية إلى 20 أسرة في نشاطات إنتاجية، وذلك بهدف تعزيز قدرة الناس على الإنتاج والعمل.
عندما يتمكن الفرد من تحويل موارد محلية -مثل النباتات الطبية في الغابة أو تربية الحشرات أو الزراعة المبتكرة- إلى دخل مستدام، فإنه لا يوفر لنفسه فقط، بل يقلّل اعتماد مجتمعه على المساعدات الخارجية ويعزّز قدرته المجتمعية على الصمود.
قضية تمكين الفقراء
على المستوى الدولي، تُعد قضية تمكين الفقراء من الإنتاج جزءاً من الالتزامات المنبثقة عن منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (يونيدو) و منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) و برنامج الأمم المتحدة الإنمائي التي تشدد في تقاريرها على أن “القدرة على الكسب والعمل” عنصر جوهري في التمكين ومنع الفقر.
تذكر بيانات منظمة "يونيدو" أن إنتاج الفقراء وتمكينهم من التصنيع الصغير والمشاريع القائمة على المهارات هو من أهم مسارات مكافحة الفقر، كذلك، يؤكد الاتفاق العالمي لحقوق الإنسان على أن الحق في العمل والحق في مستوى معيشي لائق هما من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي لا يُمكن تحقيقها دون إنتاج فعلي ومستدام.
منظمات حقوق الإنسان بدورها تطرح ضرورة ربط السياسات الاجتماعية بسياسات الإنتاج، مثلاً، هيومن رايتس ووتش تؤكد أن إعانة الفقراء فقط دون تمكينهم من الإنتاج والعمل المستقل تجعلهم عرضة للعودة إلى الفقر أو التهميش.
وقد وجدت تجارب مثل فيتنام أن الانتقال من توزيع المساعدات إلى تمكين الإنتاج والدخل يُعدّ محوراً لرؤية التنمية البشرية المستدامة.
التحديات والفرص
تحتاج المجتمعات المحرومة إلى بنى تحتية، وصول الأسواق، تنمية المهارات، تمويل أولي، وإدارة مناسبة، كذلك يجب أن يكون هناك مستشارون تقنيون، ربط مباشر بين الإنتاج والأسواق، وابتكارات تتناسب مع البيئة المحلية. الخطر أن يتحول الإنتاج إلى مجرد نشاط صغير دون ربط اقتصادي أو استدامة.
من جهة الفرص، يظهر أن المشاركة المجتمعية، تعبئة الموارد المحلية، قيادة سياسية واضحة، واستراتيجية متكاملة، تعمل فعلياً، وقدمت مقاطعة كوانغ نينه نموذجاً في هذا: تحديد الجهات المسؤولة بوضوح، تنسيق بين المنظمات، توزيع الموارد بصورة شفافة، وخطط إنتاج تستجيب لواقع الأشخاص.
كما أن الربط بين السياسات ومؤشرات الحد من الفقر متعددة الأبعاد يضمن قياس تأثير الإنتاج الحُرّ، مثلاً، في فيتنام، كما أوضح تقرير حديث، انخفض معدل الفقر متعدد الأبعاد إلى نحو 4.1 في المئة بنهاية 2024 مع جهود مركّزة نحو الإنتاج والتنمية.
من الاعتماد إلى الاستقلال
إذا نجحت المجتمعات في تحويل الفقر إلى نشاط اقتصادي ذي قيمة، فإن ذلك ليس فقط إنجازاً للفرد أو الأسرة، بل تحوّل مجتمعي، يتطلب الأمر إعادة تصور العلاقة بين الدولة والمجتمع وبين المساعدات والتنمية، حيث يتخطى الدعم النقدي المباشر إلى برامج إنتاجية، حيث يحصل الفرد على مهارة، وقرض صغير، وفرصة للسوق.
كما أن هذا المنحى يتماشى مع أهداف التنمية المستدامة (SDGs) التي تؤكد العمل اللائق ونمو الاقتصاد المحلي وتقليل الفقر متعدد الأبعاد، وترى المنظمات الدولية أن تركزة الموارد على إنتاج الفقراء وإمكاناتهم هي السبيل لجيل كامل يخرج من دائرة المساعدات ويبدأ في إنتاج القيمة.
في النهاية، تشجيع الفقراء والمجتمعات المحرومة على تطوير الإنتاج ليس خياراً بل ضرورة إنسانية عميقة، إنه يعيد للفرد كرامته، ويمنح المجتمع أمل الاستقلال، ويحول المساعدة من حل وقتي إلى مسار دائم نحو الكرامة والقدرة والحرية، في العالم اليوم، حيث يُطلب منا ألا نترك أحداً خلف الركب، فإن الاستثمار في الإنتاج الحقيقي للمحرومين هو حجر الزاوية الذي تُبنى عليه عدالة فُضلى ومستقبل أكثر إشراقاً للجميع.










